إشراقة

 

تَجَاهَلِ السلبيّين واصْطَنِعِ الإيجابيّين

 

 

 

     كثيرٌ من الناس يهمّهم كثيرًا أن فلانًا لم يقدره حقَّ قدره، فيستهلكون أنفسَهم وراء ذلك، ويضيعون الكثيرَ من أوقاتهم أسفًا عليه، على حين أن الذي يصدر عن السلبيّة في حياته ولا يُعيرُ مُؤَهَّلاً ما يستحقّ من الاحترام والتقدير والاهتمام لايستحقّ أن يُؤْسَف على موقفه ويُبْذَل الوقتُ في الاهتمام بأمره؛ لأن القيمة الحقيقية في حياة المرإ أن يتعرّف هو عليها ويقدرها هو حقّ قدرها، وأن يجعل حياته أسهل وأمتع بحذف الناس الذين يجعلونها صعبةً عليه؛ حيث إن فقدان شخص لايقدره ولا يحترمه هو في الواقع مكسبٌ له كبير، وليس من الخسارة في شيء. والأحسنُ أن يتعرّف هو بنصاب مطلوب على ما لديه من الكفاءة والغَنَاء وما يستحقّه وما لا يستحقّه.

     الغَنَاء النفسيّ والاكتفاء الذاتي هو العمدة في حياة الإنسان؛ لأنه يجعله لا يهتمّ بتقدير خارجيّ؛ فإن حظي به فذاك، وإلاّ فإن نفسه الغنيّة تبقى مذخورة تُمِدّه بالاندفاع والقوة، وطالما يجد في المجتمع الإنساني من يكون إيجابيًّا يقدر الخير في كل إنسان، ويُثَمِّن الكفاءة أينما وُجِدت، ويُقَيِّم الغَنَاء في كل فرد يوجد فيه، وهنا يعرف ويؤمن بأن هذا الكون ليس رهنًا بأيدي السلبيّين الذين يشمخون بأنوفهم ويحاولون جهدَهم دونما جدوى أن يحصروا أشعّةَ الشمس كلها في أكمامهم هم؛ حتى لايتمكن أحد غيرهم من الانتفاع بها في حال من الأحوال.

     الأصل الأصيل أن يثق المرأ بذاته ويشعر شعورًا واقعيًّا بمدى ما يتمتع به من الأهليّة والكفاءة ويهتدي بتوفيق الله تعالى أولاً ومجهوده ثانيًا إلى استثمارها وتوظيفها توظيفًا لائقًا، ويتجاهل السلبيين المثَبِّطِين المُعْجَبِين بأنفسهم الذين يظنّون أن الدنيا خُلِقَتْ لهم وحدهم فلا يجوز أن تسع الآخرين.

     هذه الثقة الداخليّة ثروة مذخورة لا تنفد على الإنفاق، وتجعل صاحبها يستغني عن المادحين والقادحين، والمُشَجِّعِين والمُـثَبِّطِين، وينمو بإذن الله صُعُدًا غير مُبَال بالمقدرين ونفوس الحاسدين. وإن حُرِمَها فإنه يشعر بكل ضعف وخور وضياع في متاهات الحياة مهما وقف كثيرٌ من الإيجابيين المقدرين بجانبه وصاروا سندًا له وعونًا على أعباء الحياة.

     إنّ التقدير والتشجيع ينفعانِ حقًّا، ويدفعان الـمُؤَهَّل إلى الأمام سريعًا، ويُزَوِّدَانه بهمة مزيدة و رصيد من الطموح كبير؛ ولكنهما ليسا كلَّ شيء في حياته؛ لأن الأساس المعتمد عليه أصلاً هو الثقة بالنفس ثقةً لا تُزَعْزِعُه العواصفُ التي كثيرًا ما تهبّ هو جاءَ في حياته فتقلع كثيرًا من الثوابت والرواسخ التي لا تُمِدُّها هذه الثقةُ التي تستعوض كلَّ خسارة وتتلافى كلَّ فائت.

     تجاهلُ السلبيين وحذفُهم من الحياة وحسبانُهم من توافه الأمور، لا يقلّ أهميّةً عن الثقة بالنفس، بل هما سيّان في حياة المرإ الذي يصدر في مواقف حياته عن الحكمة والرويّة وصفاء الإلهام؛ لأن الأمر الأول هو الذي يريحه من الشعور بالشقاء والفشل في مناشط الحياة، ويخلّصه من الأذى الداخلي، الذي يحزّ في النفس، ويؤلم الضمير، ويجرح الشعور؛ ومن ثم يُشَكِّل مكسبًا من المكاسب الكبيرة القيمة.

     الاستنادُ الزائدُ المتّصلُ إلى تقدير المقدرين وتشجيع المادحين قد يُؤَدِّي إلى ضعف في الإرادة وتراخٍ في التصميم على تحقيق معالي الأمور، ويجعل الـمُسْتَنِدَ يتعوّد الاستنادَ عوضًا عن الثقة بالنفس.

     أن تنمو وتترعرع في بيئة صالحة، وجوّ ملائم، وطقس مُوَاتٍ، وتربة كريمة، ليس بشيء كبير؛ وإنما الشيءُ الكبيرُ أن تُصَارِع مناوأةَ الجوّ، وفسادَ البيئة، وسبخَ الأرض، وقساوة الطقس، فتغلبها وتنمو نموًّا داعيًا للغبطة والإعجاب، وتسجيل التقدير والثناء، فذلك هو النجاح الحقيقي والانتصار الباهر.

     ربما يحدث أنّي أكتب بعضَ المقالات صادرًا عن مجرد روح أداء الوظيفة، وتغطية ما ينقص المجلةَ من الموادّ، ولا تطاوعني قريحتي لأُضْفِيَ عليها لونًا من الابتكار ومسحةً من الطرافة، فلا تطمئن إليها نفسي ولا يرتاح لها ضميري؛ ولكن القراء ربما تعجبهم، فيبدون إعجابهم بها إليّ عن طريق الاتصال الهاتفي أو الموقعي؛ فأقول في نفسي لنفسي: ذلك سذاجة منهم؛ حيث قد انطوت عليهم الحقيقةُ. ولا أستجيب لثنائهم ومدحهم.

     وإذا وفقني الله أن أكتب ما ترتاح إليه نفسي، وأثق في داخلي أنّه شيء سينفع الناسَ ويمكث بإذن الله في الأرض وتُكْتَب له الحياةُ والخلود، فهناك لا أبالي بأن يقدح القادحون أو يمدح المادحون أو ينال استحسانَ القراء أو استياءَهم.

     إنّ قناعة الضمير والارتياح النفسي والثقة الداخلية رصيد لاتدانيه أرصدة البنوك الباهظة أو الثروة الطائلة؛ لأنه لا ينفد على الإنفاق المتصل، بينما الثانية تنفد في وقت عاجل إذا لم تُمِدَّها أمدادٌ لاحقة.

     ثناءُ الـمُثنِين وتشجيعُ الـمُشَجِّعِين شيءٌ له قيمة؛ ولكنها تُمَاثِل قيمةَ قبض الريح واختزان السراب؛ حيث إن ذلك يُسَلِّي القلبَ لبعض الوقت ويُشْعر المرأ أن لديه شيئًا، مهما كان ممّا لا يُغْنِي غَنَاءً. إن القوة الحقيقية والثروة الأصيلة هي الثقة بالنفس والاعتماد على الذات، إنّها تُفَجِّر الطاقةَ الكامنةَ باستمرار، وتدفع للعمل والركض بتواصل، ولا ينفد مَدَدُها، ولا يخمد أُوَارُها، ولا تَهْمُد نارُها، ولا يبرد حَمْيُها، ولا ينقطع عطاؤها.

     قد ينفضّ المادحون من حولك، ويغيب عنك المُقَدِّرُون والـمُشَجِّعُون، ويخذلك من كان يقف بجانبك دائمًا وكان لايبرحك؛ ولكنه لا تنفضّ من عندك ثقتك بنفسك واعتمادك على ذاتك، إن هذه القوة تبقى فيك ما بقيتَ أنت، لأنها جزء منك لايمكن أن ينفكّ منك ولو حاولتَ أن ينفكّ. وذلك هو الشيء الوحيد الذي ينبغي أن تتخذه خليلاً تستند إليه وتصدر عنه وتثق به وتعمل بمشورته وتنزل على نصحه.

     والذي يجب أن تلاحظه دائمًا أن العلاقة الجيدة هي التي لاتسحبك أبدًا إلى الأسفل؛ بل هي التي سترفعك، سواء أكانت بالإيجابيين أو بالسلبيين؛ لأنها في الواقع استجابة لمطلب الشريعة الإسلامية وتعاليم رحمة للعالمين سيّدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولأنها حاجة المجتمع البشري في كل زمان ومكان، ولأنها ترفع قيمة الإنسان حتى في أنظار السلبيين، ولأنها ستجعلك أنه يأتي عليك الوقت الذي ستتوقف فيه عن عبور المحيطات من أجل الناس الذين يستكثرون عبورَ الجداول من أجلك؛ ولأنها لاغنى لك عنها لكي تعيش الحياةَ سهلةً ليّنةً، أقل المكاسب التي ستجنيها فيها أنها لاتكون عليك إن لم تكن لك.

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

 

(تحريرًا في الساعة 9:30 من الليلة المتخللة بين الأحد- الاثنين: 28-29/جمادى الأولى 1435هـ = 30-31/مارس 2014م)

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، شعبان 1435 هـ = يونيو 2014م ، العدد : 8 ، السنة : 38